الراءُ أحْزَنُ الكائناتِ
مكةُ المُحَرَّمَةُ
كافأهما الحبُّ لأنهما نقيان ، وعاقبتهما إرادة الأهل لأنهما صغيران ، أو لأنها نجمة وهو شمسٌ محاقية : قد يُصبـِحُ يومًا شمسًا كاملة فيستحقها وتختفي في ظلاله المشعة ، وقد تلازمه لعنة القمر الخفي فتغلب النبوءة ، ولأن المستقبل لا ينبني على قد أو ربما ؛ فليس من حقهما أن يَحْلـُمَا .. هكذا رأى مَنْ يَرَى ليَحْكـُمَ ، لكنهما لم يقبلا بانتظارٍ يقطعُ النورَ الواصلَ بينهما ، أخبرها بما عَلِمَ مما لم تكن تـَعلمْ ، فأخذتْ تبكي لساعةٍ تقريبًا على الجوال ، وهو يكتمُ صوتَ بكائِهِ الداخليِّ ليخففَ عنها ، بعد نفاد الرصيد غصبًا .. لم يستطع إلا أن يرسل لها رسالة : "والله إنك لأحبُّ بناتِ الله إلى قلبي ولولا أن أهلك أجلوني عنكِ ما ذَهَبْت" ، ظنها ابتسمَتْ ابتسامة امتصَّتْ بعضَ الأسى ، عَلِمَ منها بعد ذلك أنها احتضنـَتْ الجوال وسكبت دمعة امتنان .
تواصُل
قال لها : ماذا ستفعلين حين أموت ؟ قالت له : لا إله إلا الله ، إذا أردت أن تـُبكي حبيبتك ؛ فتحدث في هذا الموضوع مرة أخرى ، أما إذا أردت أن تعرفَ قدركَ عندها فهو أكبر مما تستطيعُ تَخَيُّلـَه ، قال لها : دموعُكِ أغلى من حَبَّاتِ عيوني ، لكنني أسألُ سؤالا واقعيًا بالفعل .. لا أستمطر به حنانـًا أتنفسُهُ في الهواء ، تقمصي هذه اللحظة دون أن تستغرقي في مشاعرها وخمني ما سوف تفعلينه ، قالت : إن قدر الله ولم أكن أنا الأولى فأمامي أحدُ احتمالين : أولهما أن يكونَ ارتباطنا قد أصبح رسميًا أمامَ الجميع ؛ وساعتها لن يلوم أحدٌ عَليَّ أن أصمت أو أتكلم أو أضحك أو أبكي ... سأترك مشاعري تقودني ، وهذه هي الحالة الأسهل ، وثاني الاحتمالين أن نكون لا نزال نحاول انتزاع حقنا الأصيل في إعلان هذا الحب ، ولم نحصل على اعتراف الناس بارتباط رسمي ، وساعتها سأحاول أن أخلو بنفسي لأطول فترة ممكنة ، ولن أجالسَ أحدًا كلما استطعت ذلك ، قال لها : لكي تبكي ؟ قالت له : لكي أتحدث معك .
شامتٌ برتبةِ حبيب
كانا يضحكان بمرارةٍ مسالمةٍ أو بسخريةٍ مشفقةٍ كلما تأملا محاولاتِ الناس لإفشال حبهما ، بين من يريد أن يقنعها أنها تستحق من هو أرقى منه علميا كطبيب مثلا ، ومن هو أثرى منه ماديا ، وبين من يغار منها فيفسد عليها سعادتها ، بتشويه احترافي أو ساذج ، كانت ترى - كما عَلـَّمَهَا - أن المنتج للأدب أفضل من المستهلك للعلم ، وأن الجامعات التي تخرج سنويا ما يزيد على خمسين ألف طبيب ومهندس وبيطري وصيدلي لا تخرج خمسة شعراء ، وأن فرصته في الغنى المادي متاحة ، كانت مجنونة به ، وكان يحترم جنونها احتراما يليق بعاقل ومجنونة ... لم يصمد المخرج العبقري كثيرا أمام ضغوط المنتج الذي يتعجله ... ربما صار الآن أثرى من ذي قبل ، ربما بدأت إرهاصات الحلم في التقاطر ، لكنها لم تصبح تلك المجنونة التي تستحق ذلك الاحترام السالف ، أصبحَتْ أعقل بكثير ، تـُشـْبـِهُ كل العاقلين المملين التقليديين ، أصبحت أهلا لضحكات غير مشفقة ولا مسالمة .
مرآةٌ مُجَاهِدَة
يسقط قلبُهُ في قدميه كلما نظرَ في المرآةِ ولمَحَ الشبهَ الذي بينه وبينها – والذي لا يلمحه الكثيرون ، شبَهٌ في الروح التي تنطبعُ على الملامح ، وشبَهٌ في الملامح يعطي الروحَ مجالـَها للإعلان عن نفسِهَا ، هذا الصخبُ البصريُّ الذي يغطي على محاولاته الناجحة للتخلص من عملاء الحب الذي كان ... قلبـِهِ القديم ِ الذي استبدَلَ به آخرَ أقـْدَرَ على أن يُمنـَحَ لسواها أو لها في زمان جديد وعمر جديد ، ربما بنفس القدرةِ يستطيعُ أن يسحبَ روحَه من ملامحه ؛ الروحُ متواطئة هي الأخرى ، ربما عليه أن يُطـَـوَّع الملامحَ لصورةٍ لا تـُشبهها ولا تشبهه ، ربما على سواها أن تكونَ أكثرَ شبهًا به لتـُوَفـِّرَ على المرآة كل هذا العناء .
عبوةٌ رائيةٌ
حرفُ الراءِ أحزنُ الكائناتِ ، لم ينتبهْ أحدٌ من العالـَمين إلى الطريقةِ اللذيذةِ المفعمةِ بالذكاءِ وخفةِ الروحِ التي ينطقـُهُ بها ، إلا حينما نـَبَّهَتـْهُ هيَ ، كانت تحبُّ أن تسمعَ منه كلماتٍ رائيةً كثيرةً ، لم يقتنعْ أبدًا أنه ينطق الراءَ بصورة مختلفة ، لكنه كان ممتنـًا لهذا الضعيفِ الذي يُسْعِدُهَا ، حرفُ الراءِ الحزين لم يفارقـْهُ رغم أنها فارقـَـتـْه .. حين نطقـَهُ على مسمع ٍ من طالبٍ مشاغبٍ كرَّرَ الطالبُ الكلمةَ مقلدًا الراءَ بصورةٍ ساخرةٍ مبالـَغٍ فيها ، اندفـَعَتْ في وجناتِهِ أمام طـُلابهِ كراتٌ ناريةٌ حمراءُ تـَعَجَّبَ لها الجميعُ فلم يَعْتـَدْهُ أحدٌ خجولا ولا منكسرا أمام هجوم ٍ أو سخريةٍ ، في الحقيقة لم يكن الأمر خَجَلًا على الإطلاق ، لكنها كانت دموعًا رائيةً حمراءَ لم تسمحْ لها العيونُ بالانفجار .
إسلام هجرس
الثالثة والنصف صباح 30/6/2010م