الجمعة، 16 أبريل 2010

حين يأتي الدمع حلوا باردا !

*
المنطق اللامنطقي الذي نعيشه يخبرنا : أن الشخص كثيرَ المرح : قليلُ الدموع ، وأن الشخصَ قليلَ الضحك : كثيرُ الدموع ॥ باعتبار الدموع علامة الاكتئاب ، فكرةٌ متفق عليها ॥ وتمررها العقول دون مشكلة في السياق المعتاد ، بينما عند التأمل تختلف الرؤية ؛ فالإنسانُ كثيرُ الضحك لا يتيح دموعَه للنشر ، أو يذيعها في موجز الأخبار ، بينما هو بينه وبين نفسه – كعلامة صحةٍ نفسيةٍ – ينفق من دموعه ما يضمن تصفية كل شحنات القلق والحزن والحيرة।
في الكويت / وفي كل غربة – وبحكم الخلاء الكوني والنفسي – يكثر الضحك والدموع ، وينتبه الإنسان إلى وجود شخص يدعى "أنا" ॥ في هذه البلد الجميلة المفعمة بالشياكة والفخامة الأوربية في مبانيها ، والخالية من شجن وطيبة الطين المصري وخضرة الغيطان التي تأسرك بتلعثمها البشري وبساطة لهجتها إذا نطقت .. لا لهجة الإنسان الآلي المصمتة وهو يعطي فرماناته المجردة من كل شعور ।

*
يسهل عليك في بيئة كهذه ، وبشخصية تعيش منطقها الخاص : أن تبكيَ دموعًا باردة حلوة لا مالحة سخينة ، وأن تستوقفـَكَ إذا صادفـْتـَها ؛ لتلقيَ عليها تحية الزمالة ثم تواصل ॥ دموعًا تجعلك أخف وأصفى ، لا تنتمي إلى عالم الضعفاء المستسلمين ، ولكن تتبرأ من عالم الجفاة المتحجرين ، هكذا أعيش ، وهؤلاء هم أصدقائي ..
*
دمعة أولى

*
أحد التلاميذ دائم السرحان والصمت : سألته سؤالا مفاجئا ؛ فأجاب إجابة غير متوقعة منه ، قلت له : ما هذه العبقرية ! أنت تستحق وبكل جدارة أن أسلم عليك بنفسي شخصيا الآن مباشرة ودون أي إجراءات إعدادية ، وتقدمتُ ومددتُ يدي وقلت : يا ولاد صورونا ، كل الأولاد والبنات رفعوا أيديهم كأنهم يصورون إلا طالبة ، فقلت لها بصراخ مازح : ليه مبتصوريش ؟!! بكت البنت بشدة وهي تقول :أستاذ .. ما معي كاميرا عاااااااااااااااااااااااااااا .
الله على هذه الدمعة التي أضحكتني وأنعشتني في يوم قلبيِّ صائف عابس .
*
دمعة ثانية

*
صديقي مدرس اللغة العربية الذي أحدثه كثيرا عن مصر ، وأتكلم بتأثر شديد فلا تتحرك له شعرة ، أسَلطُ عليه ذكرياتِهِ ، وأجَنـِّـدُ الأصدقاءَ الذي مَرُّوا على محطة العمر ولم يبقَ منهم إلا الحكايا ، والأماكن التي شهدت براءة الصغر وشيطنتها ، ونزق المراهقة ، وبداية َشبابٍ لم يَعقِل قبل أن يُفـَارق ، ولم يفارقْ إلا وقد عَقِلَ الحقيقة المُرَّة التي نزعَتـْهُ من بين أهله وناسه ، لتـُسْكِنَهُ في وادٍ غير ذي حُبٍّ عند (نفطِهِ المُكَدَّس) ، وأحكي له عن جمال مصر وأنت تلمحها صغيرة التقاطيع والملامح من شباك طائرة عائدة ، وعن حزنها وأنت تراها ضامرة الملامح من نافذة طائرة مسافرة ، ..
المرة الأولى التي أصمتُ فيها ليتكلم هو ، حين رن هاتفي الجوال بنغمة ديك ؛ فنظر للأعلى وانسكبت من عينه دمعة ، وقال : قد لا تصدقني لو قلت لك لقد تخيلت أنني أمام بيتي وديكـُنا الذي على السطح يؤذن .
ما أقواك من ديكٍ ، فعلتَ ما لم تستطعه وشاياتي الدائمة للذكريات والأصدقاء والأماكن ، ربما أعتبرُكَ القشة التي قصمت ظهر البعير ؛ حتى لا أشك في قدراتي على التأثير ، وربما أصْدُقُ أكثر فأعرف وأعترف بجبروتك الحاني الذي يستحق دمعة حلوة باردة تتنفسُ من خلالها أشواقـُنا غيرُ الباردة .
*
دمعة ثالثة

*
منذ طفولتي السحيقة – عندما كانوا يخبروننا في الحضانات والمدارس أن الحضارة المصرية القديمة مضى عليها أكثر من سبعة آلاف من السنوات ، أظن أنها الآن أصبحت أكثر من ذلك - منذ هذه الحقبة الزمنية وأهلي يعرفون عني أنني لا أبكي أبدا بطبيعة العناد والكبرياء التي ولدتُ بها منذ الصغر ، كسرتُ هذه القاعدةَ مرة في الصف الرابع الابتدائي حين فـُتح رأسي وظنوا أن أخي هو الذي جُرح ؛ لأن المجروح كان يبكي .. وليس من المعقول أن يكون أنا ، ومراتٍ إجباريةٍ قليلةٍ أخرى لا مجال لذكرها الآن .. الكسرُ الحقيقي للقاعدة كان هنا وفي حصة ، وبينما أشرح درسا عن اختيار الأصدقاء لطالبة الثانوية : كنت أقول : من قـَوِيَتْ صداقتهما على حب الله وعلى الحب في الله : تضعُفُ بابتعاد أحدهما عن الله وإصراره رغم محاولات صديقه معه ، وحكيت لها أن المتحابين في الله إذا دخل أحد منهما النار واستحق الثاني الجنة : وقف الثاني على باب الجنة وكأنه لا يريد أن يدخل ، وكأنه يقول لله بلسان حاله : يا رب هذا صديقي الذي عشت معه على الحلوة والمرة ، وأكلت وشربت معه ، وسهرت معه ، وحكيت له حين ضاق صدري فكان خير المعين ، وبكى على كتفي حين هاجمته الأحزان ،،، بعد كل هذه الحياة كيف أدخل الجنة وأتركه في النار ؟! فيقول الله له : اذهب وخذ بيد صاحبك وادخلا الجنة معا ...
بينما أحكي الموقف : اختنق صوتي وأحسست بدموع في عيني ، وكأني نسيت أن أمامي طالبة ، وتذكرت فقط أصدقائي الذين كنت أكلمهم في هذه الفكرة كثيرا ، وأقول لهم : إذا دخلتُ النار فلا بد أن تخرجوني منها بحق كل ما بيننا من حب نشأ على طاعة الله ، وبحق الصداقة الطاهرة المنزهة عن الخبث والمعصية المشتركة و...........
انتبهتُ للطالبة بعد غيبوبةِ اللحظةِ فوجدتـُهَا تأثرت جدا وأخذت تبكي ، إنها دموعٌ حلوة باردة لا تثقل القلب بل تغسله ، ذكرتني بعبارة كنت أعتبرها شعارا فقد مضمونه ، وهي "رسالة المعلم" ، يجب أن يكون التعليم ثقافة تـُرَقي عقولنا ، وعلما يغير واقعنا ، وأخلاقا تهذب سلوكياتنا ، ومشاعر تداعب قلوبنا ( ثلاثية تكامل الأهداف : المعرفية والوجدانية والسلوكية ) .


إذن للدموع كما للضحكات وظائف سامية في الحياة ،
هي التي جعلت الجبار العظيم / عمر بن الخطاب – بوصف العظمة والجبروت صفاتٍ إنسانية ًلا ربانية – يَرِقُّ لآية ؛ فيرقد في سريره أياما وشهورا ، ويباشر مهامه الضخمة انطلاقا من عاطفته تجاه بغلة قد تـَعـْثـُر في أطراف الكون فيسأله الله عنها ...
وهي التي جعلت الحنون الرقيق البكـَّاء أبا بكر الصديق قويا يواجه أشد المواقف عنفا وزلزلة في حياة المسلمين بكل قوة وثبات ( وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، ويحارب المرتدين ومانعي الزكاة .
هل هي دعوة للبكاء ؟! ربما هي كذلك .. ولكن :
ليكن قياسنا على قول سلمان – رضي الله عنه – فنقول : "إن لعينك عليك حقا ؛ فأعط كل ذي حقٍّ حقه" .. صدق سلمان .

إسلام هجرس
16/4/2010م

هناك تعليق واحد:

ناصر العازمي يقول...

السلام عليكم,,,
شلونك يا استاذي.
والله موضوع رائع و دموع حزينه و مضحكه جدآ
و الموقف الاول اعجبني جدآ
و اشكرك على الموضوع الجميل
تقبل مروري ,,,,

الأخبار